فلسطين

عزلة شعبية عالمية: المقاطعة الأدبية والثقافية لإسرائيل

يبدو أن إسرائيل على وشك أن تعاني خسارة استراتيجية كبيرة في المجال الأكاديمي والثقافي لسنوات طويلة مقبلة، لقد حولت غزة كل ما هو إسرائيلي إلى فضيحة.

future رجل فلسطيني يمر أمام رسم جرافيتي يدعو إلى مقاطعة إسرائيل في مدينة بيت لحم بالضفة الغربية

قبل قرابة تسع سنوات تناقلت الصحف العالمية والإسرائيلية خصوصاً خبراً غريباً مصحوباً بأشد عبارات الاستغراب والدهشة. الخبر كان رفض الكاتب الأمريكي دوغ هنويد منح حقوق ترجمة كتابه لدار نشر إسرائيلية. هنويد مؤلف السيرة الذاتية لهيلاري كلينتون بعنوان «دوري: هيلاري تطمح للرئاسة». وبعد أن تواصلت دار النشر الأمريكية مع أخرى إسرائيلية تعرض عليها ترجمة الكتاب إلى العبرية، وبعد موافقة الدار العبرية فوجئ الجميع برفض هنويد صدور كتابه بالعبرية في إسرائيل.

علقت الصحف الإسرائيلية أن هنويد العجوز (كان يبلغ 63 عاماً آنذاك عام 2015)، هو أحد أذرع حركة المقاطعة العالمية ضد إسرائيل. وسخفت الصحافة العبرية من أهمية الرجل، على رغم أنه يساري مشهور، ومن أهم المحللين الاقتصاديين الأمريكيين، وأنه أيضاً من كتاب صحيفة الجارديان البريطانية، ولوس أنجلوس تايمز الأمريكية.

الآن تدخل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة شهرها العاشر، ويبدو أنها قد تستمر لما بعد هذا الشهر بشهور أخرى. ومع هذه الضبابية المتعلقة بمآلات الحرب، فإنه على الجانب الآخر ينقشع بعض الضباب المحيط بالكيان الإسرائيلي عالمياً، فقد بدأت حركة قوية لمقاطعة الكيان والدول الداعمة له.

المقاطعة شملت جوانب عدة، الاقتصاد والسياسة هما أبرز الجوانب التي نالت تغطية إعلامية. لكن تشهد إسرائيل جانباً آخر من المقاطعة لم يكن في حسبانها، هو المقاطعة الثقافية. فقد أعلن الناشرون الإسرائيليون عن حركة مقاطعة يقوم بها مجموعة من الكتاب والمترجمين الشباب. الحركة تنبعث من دول مثل إسبانيا وإيرلندا ودول عدة في الشمال الأوروبي.

الأدباء يرفضون ترجمة أعمالهم للعبرية

هذه المقاطعة تتجلى في رفض عديد من المؤلفين بيع حقوق أعمالهم لدور النشر الإسرائيلية، كما يرفض المترجمون الغربيون العمل مع دور نشر إسرائيلية لترجمة أعمالهم إلى العبرية. كذلك أعلن عدد من المؤلفين الإسرائيليين الذين كانوا يطمحون لنشر أعمالهم في دور نشر أوروبية ناطقة بالإنجليزية، أنهم باتوا يواجهون صعوبة كبيرة في الوصول لمسؤولي تلك الدور. وأن تلك الصعوبة ظهرت بقوة في الأشهر الأخيرة بعد تجاوز الحرب على غزة شهورها الأولى.

موقع كالكاليست العبري واجه قراءه قائلاً إنه عليهم ألا يتفاجئوا إذا لم يجدوا متاحاً لهم في السنوات المقبلة ترجمات عبرية لكتب الأدب الإيرلندي المعاصر أو الأدب الأمريكي الحديث. كذلك أضاف الموقع أن عشاق الأنواع المختلفة من الأدب عليهم أن يبحثوا عن الأعمال التي يريدونها بلغات أخرى. الموقع فسر هذه الرسالة بأنه مع استمرار الحرب على غزة يزداد رفض الكتاب حول العالم لمسألة بيع حقوق الملكية الفكرية لأعمالهم لدور نشر إسرائيلية.

من الأمثلة التي انتشرت لمن رفضوا النشر بالعبرية، الكاتبة البريطانية من أصل هندي شينا باتيل. لكن تجب الإشارة أن شينا قد أوضحت أن رفضها ترجمة أعمالها إلى العبرية قد حدث قبل اندلاع أحداث طوفان الأقصى وما تلاه من حرب الإبادة الإسرائيلية. أما النموذج الآخر فهو بول موراي كاتب إيرلندي شهير. كما رفضت الكاتبة الأرجنتينية سالفا ألاميد التي رشحت لجائزة مان بوكر العالمية، عرضاً من الدور الإسرائيلية لنشر روايتها بعنوان «ليست نهراً».

جيل تيك توك يعاقب إسرائيل

قد يكون هذان النموذجان بسيطين حين يتعلق الأمر بالإجراءات، فالناشر الإسرائيلي يخاطبهم لشراء حقوق الترجمة فيتلقى الرفض قبل إنفاق أي أموال أو إضاعة وقت على العمل. لكن عديداً من الناشرين الإسرائيليين يلفتون النظر إلى زاوية أخرى من المقاطعة. أن الناشرين كانوا قد تلقوا مخطوطات بالفعل، واستغرقوا أشهراً في قراءتها وتكوين رأي حول نشرها من عدمه، لكن بعد أن يقرروا الموافقة ويتم التواصل مع الكاتب، يرفض الكتاب النشر.

كما أن هناك زاوية ثالثة، وهي الكتب الإسرائيلية المكتوبة والمنشورة في إسرائيل، التي يطمح ناشروها إلى تسويقها في الخارج، حيث يقول زيف لويس مدير حقوق النشر في داركينيريت زامورا للنشر، أنه يعمل في صناعة النشر منذ أربعة عقود، ولأول مرة يجد هذه الصعوبة في بيع حقوق النشر الإسرائيلي في الخارج.

كذلك يشتكي عديد من أصحاب دور النشر من مقاطعة الكاتبات الأمريكيات اللاتي يكتبن للداخل الإسرائيلي روايات الرومانسية والإثارة. ربما يرجع الأمر إلى أن غالب هؤلاء الكتاب يأتين من بين المشهورين في مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً تطبيق التيك توك، وقد شهدت تلك التطبيقات حملات واسعة للمقاطعة.

شعور عام بالعداء ضد إسرائيل

الأدب نوع من الفن لذا فالفنون كلها في إسرائيل باتت في مرمى المقاطعة، إذ رصدت الصحف الإسرائيلية والعالمية احتجاجاً لعدد من مؤيدي القضية الفلسطينية في مهرجان أمستردام للسينما، اعتراضاً على وجود مشاركة إسرائيلية فيه. ونقلت الصحافة الإسرائيلية كذلك أن أي مهرجان سينمائي يوجد فيه فيلم إسرائيلي أو حتى يشارك فيه إسرائيليون أياً كانت صفتهم، بات مسرحاً متوقعاً للتظاهر ضد إسرائيل، ودعم القضية الفلسطينية. وبالطبع يصاحب ذلك حملات مقاطعة بعدم حضور تلك الأفلام والندوات.

الأمر الذي يعني خسارة مادية واضحة لتلك الصناعة ومن يدعمها. وهو ما دفع عدداً من المنتجين وموزعي الأفلام للابتعاد عن الفن الإسرائيلي. وخوفاً من الرفض المحتمل بنسبة كبيرة أصبح صناع الفن والأدب الإسرائيليون يرفضون إرسال قوائم أعمالهم أو عرض مشاريعهم على جهات التوزيع والنشر الغربية.

تلك المقاطعة الثقافية هي جزء من مقاطعة أوسع، وهي المقاطعة الأكاديمية، فقد نشرت الصحف الإسرائيلية أنباء عن حالة من المقاطعة الغربية للأكاديميا الإسرائيلية، تتمثل في عدم دعوة أي أكاديميين إسرائيليين إلى مؤتمرات دولية أو حتى القبول بالمشاركة في أبحاثهم أو تمويلها.

تحدثت الصحف الإسرائيلية كذلك عن شعور عام بالعداء تجاه إسرائيل، لافتة إلى أن هذا الشعور انتقل إلى كليات علمية مثل الطب والعلوم الطبيعية. واللافت في تلك النقطة أن العداء ضد إسرائيل كان شبه منحصر في الكليات المهتمة بالتاريخ أو العلوم الإنسانية، حيث يتعرض الدارسون بطبيعة الحال إلى معاناة الشعب الفلسطيني، ومعاناة الشعوب تحت الاحتلال عامة.

مقاطعة غير مسبوقة

نقلت صحيفة ذا ماركر الاقتصادية الإسرائيلية، عن باحث إسرائيلي قوله: «لقد ثار العالم ضدنا». تقول الصحيفة إن الباحث الذي رفضت ذكر اسمه قال تلك الجملة بعد أن وصلته عديد من الأخبار عن باحثين إسرائيليين قطع زملاؤهم تعاونهم معهم. كما رفضت عديد من الدوريات المرموقة نشر أبحاث إسرائيليين دون إبداء أسباب.

لكن الصحيفة نقلت عن مصدر معلوم، وهو البروفسيورة ريفكا رمي مديرة مؤسسة العلم في الخارج، التي تساعد الباحثين الإسرائيليين في مختلف دول العالم. نقلت عنها قولها إن هناك مقاطعة سرية وضمنية تقوم بها عديد من الهيئات العلمية. تلك المقاطعة -كما تقول ريفكا- تشمل عدم قبول أبحاث الإسرائيليين أو تحكيمها، كذلك تشمل رفض حضور أي مؤتمرات علمية في إسرائيل أو دعوة الباحثين الإسرائيليين لإلقاء محاضرات في الخارج.

مما يعني أنه على رغم غياب إعلان رسمي أو حدث رسمي، كإلغاء اتفاقية موقعة أو سحب استثمار مباشر، فإن الواقع يؤكد حدوث تغيير كبير على الأرض. مثل ما نشره الصحافي أور كشتي في صحيفة هآرتس، لافتاً النظر إلى حالات طرد لعلماء إسرائيليين من المجموعات البحثية. وتجميد تعيينات عدد من الأساتذة الإسرائيليين. وقد بنى كشتي استتناجه على محاوراته مع 60 باحثاً إسرائيلياً، ولخص ما توصل إليه في قوله إن: «إسرائيل تواجه مقاطعة أكاديمية غير مسبوقة وتزداد صرامة يوماً بعد الآخر».

العزلة الثقافية ليست هينة

تلك المقاطعة الثقافية أو الأفعال التي تبدو بسيطة وغير ذات أثر، كرفض ترجمة عمل إلى العبرية أو الخروج عند عرض فيلم إسرائيلي في مهرجان عالمي، تزعج إسرائيل بصورة أكبر مما يمكن تخيله. فإسرائيل عملت طويلاً على الاستثمار في المجال الأكاديمي والثقافي كي يصبح وجودها في تلك الأوساط مألوفاً، ومنفصلاً عما تمارسه من القمع العسكري في الأراضي الفلسطينية.

لكن حالياً تنهار كل تلك الاستثمارات، وتجد إسرائيل نفسها في عزلة دولية. ليست عزلة رسمية يمكن حلها بقرار سياسي أو بقرار من جهة ما، لكنها عزلة شعبية عالمية. فقدت فيها إسرائيل قدرتها على تسويق سرديتها عن الأحداث، وتبرير أفعالها بوسائلها الناعمة مثل السينما والأدب.

الأهم أن ذلك يسهم في تشكيل رأي عالمي أو حتى رأي محلي داخل دولة أو منطقة محددة، يرفض الاحتلال والتطبيع مع إسرائيل. مما يعني بالتبعية بروز ساسة يحاولون مغازلة ناخبيهم بالعزف على نفس وتر المقاطعة والابتعاد عن التطبيع -ولو علنياً- مع إسرائيل.

لقد حولت غزة كل ما هو إسرائيلي إلى فضيحة محتملة. فضيحة لا تستطيع الجهات الدولية الدفاع عنها في خضم هذه الأحداث المتسارعة، وتفضل الابتعاد عنها قدر الإمكان حتى تهدأ الموجة الغاضبة. لكن بهذه المقاطعة الأكاديمية والأدبية الصادرة عن تفكير عميق وشعور قوي، وليس شعوراً لحظياً أو تضامناً فاتراً، يبدو أن إسرائيل على وشك أن تعاني خسارة استراتيجية كبيرة في المجال الأكاديمي والثقافي، على المستوى الفردي والشعبي، لسنوات طويلة مقبلة.

# حرب غزة # طوفان الأقصى # إسرائيل # غزة

«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات
تل أبيب: قصة الحي الشعبي الذي أصبح قلب إسرائيل
الشابات: كيف نفهم حياة الحريديم في الأراضي المحتلة؟

فلسطين